حين نفكر في "تذوّق الفن"، قد يخطر بالبال مشهد شخصين أنيقين يدخلان متحفًا ذا واجهة حجريّة بيضاء، يقطعان التّذاكر، ويتجوّلان بين المعارض. قد يطيلان الوقوف أمام لوحة مربّعة يحتلّ لون واحد أكثر من 97% من مساحتها، يميلان رأسيهما يسارًا ثمّ يمينًا محاولين قراءة شيء ما "يلامسهما" في اللوحة. تتمتم أحدهما بما تظنّ أن اللوحة تذكّرها به، فيهز رفيقها رأسه ويهمهم موافقًا. وبعد ساعتين، ينطلقان عائدين، ليتجادلا في طريق العودة حول ما سيعدّان للعشاء.
كغيره من المجالات التي أعادت الانتفاضة تعريفها بما يتوافق مع متطلّبات المرحلة، كالتّعليم والتّجارة والزّراعة، اتّخذ الفنّ في فلسطين خلال تلك السّنوات مسارًا منسجمًا مع المقاومة باعتباره مشروعًا شعبيًّا يوميًّا، لينتج أدواتِه وأسلوبِه وجمهورِه وفنّانيه، بعيدًا عمّا تمليه مقرّرات تاريخ الفنّ وأصوله.
استعادة اللوحة
مثلما استعاد الفلسطينيّون خلال الانتفاضة الشّارعَ والمدرسة والبستان، وأعادوا تعريفها وفتحوا لأنفسهم بذلك بابًا للخيال، فقد استعادوا الجدران لتصبحَ مساحة متاحة للكلّ، مثل لوحة بيضاء يملؤونها كما أرادوا.
ولم يكن ذلك فعل تمرّد فحسب، بل كان استجابة لحاجة عمليّة، فقد خضعت الصّحف لرّقابة شديدة، وتوقف الكثير منها لبعض الوقت، لذا، كان لا بدّ من مصدرٍ آخر للأخبار.
فإلى جانب استخدامها مساحةً للتّعبير الإبداعيّ، حوّل المقاومون الجدران إلى قناةٍ يتناقلون عبرها رموزًا وإشاراتٍ تخاطبُ أفرادًا محدّدين، وهذا جعل من كتّاب الشعارات والغرافيتي مطاردين ومطلوبين.
فقد وزّع الاحتلال منشورًا بعنوان "بيان وتنبيه" حذّر خلاله الفلسطينيّين من الكتابة على الجدران، وطالبهم بإزالة الشّعارات عن جدران بيوتهم، وكانت عقوبة المخالفة تصل إلى 1500 شيكل، وأحيانًا إلى السّجن الفعليّ الذي قد يصل إلى خمس سنوات (الأمر الذي لا يزال ساريًا حتى اليوم).3
هكذا انتقلت ساحة المعركة بين الاحتلال والفلسطينيّين إلى جدران البيوت، فيما سمّي بحرب الفرش والطّلاء.
ذلك ما عايشته الباحثة المقدسيّة نجمة علي في الانتفاضة الأولى. تقول نجمة إنّ الفلسطينيّين في القدس كانوا يضطرّون للذّهاب إلى تل أبيب لشراء الفرش والطّلاء لعدم إثارة الشّبهات، فشراؤها داخل القدس يعني الشّروع في تنفيذ "جريمة".
ذلك ما عايشته الباحثة المقدسيّة نجمة علي في الانتفاضة الأولى. تقول نجمة إنّ الفلسطينيّين في القدس كانوا يضطرّون للذّهاب إلى تل أبيب لشراء الفرش والطّلاء لعدم إثارة الشّبهات، فشراؤها داخل القدس يعني الشّروع في تنفيذ "جريمة".
لكن مع تضييق الخناق على إمكانيّة الرّسم على الجدران وتجريمه، ابتدع الفلسطينيّون وسائل لحماية أنفسهم وضمان استمرار هذه الإمكانيّة. فكانوا يرشون الغرافيتي بالشِّيد ليظهر الجدار أبيض اللون عند مرور جنود الاحتلال، ثمّ يرشّون الشيد بالماء عند رحيلهم فتعود الرسومات والشّعارات على الجدار كما كانت.
"Marj Ibn Amer" show in al-Hakawati Theatre in Jerusalem 1989
حين يصبح السّجن آلةً موسيقيّة
للموسيقى قصّتها كذلك في الملاحقة، فالأغاني لم تكن استثناءً على بقيّة الفنون التي صارت ساحةً للانتفاضة.
فنّانون مثل وليد عبد السلام، وثائر البرغوثي، ومصطفى الكرد، وأبو نسرين، وفرق مثل فرقة شرف (1988) وفرقة الاستقلال (1988) وفرقة جفرا (1989) كلهم برزوا خلال الانتفاضة، مقدّمين أغانيَ تخاطب المنتفضين4
بثمنٍ بلغ حدّ الاعتقال، كما في حالة الفنان محمد عطا خطّاب، الذي اعتقل عدّة أشهر من كلِّ عام طيلة فترة الانتفاضة.5
انطلق أوّل كاسيت ثوريّ بعنوان "شرار" من تلحين الفنّان سهيل خوري، وحين ضبطت المخابرات الإسرائيلية 15 ألف نسخةٍ منه في سيارة؛ حُكم عليه بالسّجن سبعة أشهر. كان ذلك في عام 1988. تلك الفترة، اعتقل وسيم الكردي وسهيل خوري أيضًا، واقتيد كلُّ منهما إلى سجنٍ مختلف؛ وسيم الكردي إلى سجن الجنيد، وسهيل خوري إلى سجن عتليت، أما محمد عطا فكان قد سبقهما إلى سجن أنصار.
لكن كما تفعل السّجون مع معظم المعتقلين السّياسيّين، شحذ المعتقلُ مخيّلة الفنّانين الثلاث، وحين زارت عائلة الكردي ابنها في السّجن، سرّب معها من خلال الشّبك كلمات أغنية "ع سيوفنا رقصت شمس". أوصلت العائلة الكلمات إلى فرقة الفنون الشّعبيّة، ومن هناك نقلتها الفرقة إلى سهيل خوري في سجنه، ليبعث سهيل الموسيقى في النّص ويشكّل ألحان الأغنية الأولى.
محمد عطا الذي كان يعزف النّاي على أنابيب الكهرباء المتدلّيّة في المعتقل، أصاب إدارة السّجون بالجنون وهي تبحث عن مصدر الموسيقى المنبعث من الزّنازين، وبعد أن فتّشت غرفته عشرات المرّات، أقنعهم أنّ مصدرَ الموسيقى أنبوبُ معجون الأسنان المثقوب.
وحين وصلته الأغنية، بدأ برسم رقصات العمل الفنّي في رأسه. تلك السّلسلة من التّنقّلات عبر الزّنازين المختلفة أنتجت أحد أهم أعمال فرقة الفنون، وهو عمل "مرج ابن عامر".
لم يجئ ذلك طبعًا بمعزل عن محاولات الاحتلال لفرض السّيطرة والعقوبات على النّشاط الفنّيّ. فكثيرًا ما كانت الأمسيات الوطنيّة تُلغى، وتُقفل المراكز الثّقافيّة، كمسرح الحكواتي الذي كان يُقفل بقرار أمنّي لمدة 24 ساعة، ما إن تصلَ المخابراتِ إخباريةٌ عن وجود حدث فنّيّ. كما كان جيش الاحتلال ينصب الحواجز لمنع وصول الجمهور،
لكن ذلك لم يوقف الفنّانين الذين كانوا يمشون مسافاتٍ طويلةٍ على الأقدام للوصول إلى المكان.
خلق الألوان
في الخامس من شباط 1988، صدر بيان الانتفاضة السّادس، داعيًا إلى "تشجيع الاقتصاد الوطنيّ والصّناعات الوطنيّة المحلّيّة، وتنشيط الاقتصاد المنزليّ، وترشيد الاستهلاك وتقليصه دعمًا للانتفاضة وتمهيدًا لإيجاد بدائلَ عن البضائع الإسرائيليّة التي يجب مقاطعتها".
A statement by the Unified National Leadership of the Uprising in 2/5/1988
بالنّسبة للفنّانين التّشكيليّين، كان ذلك يعني التّخلي عن ألوانهم ولوحاتهم وفُرشهم. فالحصار اضطرّهم للاعتماد على المواد الإسرائيليّة سنوات، لكنّ التّضامن الاجتماعيّ ودعوات المقاطعة التي جاءت بها الانتفاضة دفعت الفنّانين لالتزام مقاطعة المواد الفنّيّة الإسرائيليّة، الأمر الذي جعلهم يبحثون عن بدائل مبتكرة لممارسة شغفهم الفنّيّ.
كان نبيل عناني واحدًا من هؤلاء. أعادته الانتفاضة إلى مدينة طفولته، الخليل، وبدأ بدراسة ألوان الدباغة والحنّاء وتفحُّصها، ثمّ انتقل للبحث مع زملائه الفنّانين في الألوان التي توفّرها البهارات المختلفة، وبدأ معهم رحلة التّجريب لصناعة ألوان محلّيّة.6
بدأ عناني بالرّسم على الخشب، فكان يقصُّ الرّسومات بالمنشار، ثمّ يجلد الخشب ويدبسه ويصنع خلفيةً لتثبيته، ثم ينتقل إلى التّلوين. ناقش عناني مع رفاقه فكرة صناعة الألوان وجرّب كلَّ الإمكانيات، فاستخدم الحنّاء والحبر والبهارات، كالسّمّاق والكركم، وغيرها من المواد. يقول عناني: "كثيرًا ما فشلت، ومع كثرة التّجريب وصلت إلى طريقة تحفظ الألوان على اللوحة، من خلال العمل على الجلد حين تكون الألوان نصف جافّة، لا في مرحلة الجفاف النّهائي".
استحدث العديد من الفنّانين إلى جانب نبيل عناني موادهم الفنّيّة من الطّبيعة المحلّيّة، فقد استعمل سليمان منصور الطّين والتّبن، وهي المواد المستخدمة في صناعة الخوابي والشّيد. أمّا تيسير بركات فاستعمل الأصباغ الطّبيعيّة المستخرجة من قشر الرّمّان والبصل، والتي كانت مستخدمة سابقًا في تلوين خيوط الحرير للتّطريز، كما استعمل الفنان جواد إبراهيم الحجارة المحلّيّة لإنتاج تماثيل فنّيّة مختلفة.
“Exit into the Light” was the first painting that artist Nabil Anani created during the uprising. It was exhibited in the Hakawati Theatre in Jerusalem, while Anani continued his experimentation. He used other materials such as wood and copper, while continuing to use leather and various raw materials for approximately six years.
بالطّبع، لوحق الفنّانون التشكيليّون كما لوحق غيرهم، مرة عبر التّحقيقات وأخرى عبر مصادرة اللوحات. فأُغلق معرض سليمان منصور عام 1981 وسجن، كما سجن عصام بدر، ومنع عناني نفسه من السّفر.
"كانت مسؤوليّتنا كفنّانين في الانتفاضة أن نخلق الإطار وأن نأخذ دورًا فيما يجري بحكم المسؤوليّة المجتمعيّة"، يقول عناني. "وباعتبارنا أصحاب رسالة، كان علينا مشاركة شعبنا كوننا جزء لا يتجزّأ منه".
قائمة مصادر
- 1المدهون، ربعي. الانتفاضة الفلسطينية: الهيكل التنظيمي وأساليب العمل. مؤسسة الثقافة الفلسطينية، دار الأسوار، 1989.
- 2شيف، زئيف و يعاري، اهود. انتفاضة. ترجمة من العبرية: دافيد سيجف. القدس وتل أبيب: دار شوكن للنشر، 1990.
- 3محمد، إبراهيم. محمد طارق. شعارات الانتفاضة: دراسة وتوثيق. المركز الفلسطيني للإعلام، 1991، ص 35.
- 4النوباني، يامن. "ثائر البرغوثي، لهيب الأغنية الثورية في انتفاضة الحجر". وكالة وفا، 15 آب 2015. http://www.wafa.ps/arabic/index.php?action=detail&id=202918
- 5علي، نجمة. الأغنية السياسية الفلسطينية بين الانتفاضتين. (رسالة تخرج غير منشورة). القدس: الجامعة العبرية، 2009.