نحو التجريب والإبداع
تأسّست جماعة "نحو التجريب والإبداع" خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، سنة 1989، في سياقٍ كان كلّ ما فيه ينادي بالحريّة ويسير نحوها. في ذلك الوقت العصيب - الملحميّ، صعد شعبٌ بأكمله فوق جرحه الغائر، وردّد بصوتٍ واحدٍ مقولته الشهيرة: "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة".
اجترحنا، نحن الفلسطينيّين، معاني جديدةً لوجودنا، وصرنا أقرب ما نكون إلى كينونتنا. وما كان في ذلك الوقت تجاوز العاديّ إلى ما فوق العاديّ، وصار بالإمكان أن يقول الجميع، شعراءً، وكتّابًا، وفدائيّين، وطلّابًا، ومعلّمين، وعمّالًا، وفلّاحين، وأحزابًا، وفنّانين: الأرض خبزنا، وملحنا، وطريقنا، وغايتنا الأخيرة. لم تكن الانتفاضة الأولى، بطبيعة الحال، لحظةً واحدةً مكثّفةً وعابرةً، بل كانت خلاصة نضالٍ مريرٍ استمرّ ما يقارب أربعين عامًا. وفي ذروة الألم، يصحو أملٌ لا يفارق أصحابه، يرفعهم إلى جمال الممكن، بعد أن يخرجهم من بطن المستحيل.
اجتمع أربعة فنّانين في ذروة الحدث، واختاروا أن يتحدّثوا بلغة الجموع، وأن يخوضوا "مغامرة البحث الجماليّ، ومحاولة الارتقاء بالرؤية الفنيّة إلى مستوى يؤكّد حريّة الفنّان الداخليّة، وقدرته على استشراف الجمال والحقيقة، في خضمّ نضاله اليوميّ لنيل الحريّة"*. وصارت مادّة الفنّ الأولى هي الأرض التي يسعون إلى تحريرها، مستخدمين خاماتها للخروج بفنٍّ يشبه زمنه، ويخرج عن إطار السائد نحو اليوميّ الحقيقيّ، بواقعيّته ورمزيّته.
في ذكرى الانتفاضة الأولى المجيدة (37 عامًا)، وذكرى تأسيس جماعة "نحو التجريب والإبداع" (35 عامًا)، يُرفع الستار عن جداريّات الفنّانين الأربعة، تحت العنوان القديم الجديد "نحو التجريب والإبداع"، ليذكّرنا بلحظة التكوين الأولى للأفكار الثوريّة، وبأنّ التجريب والإبداع ديمومتان لا تنقطعان ولا تنتهيان، إنّهما مادّة الحياة، وأحجار جبالنا وسهولنا التي سيظلّ أطفال البلاد يحملونها في وجه دبّابة العتمة، وسلاح العدوّ.
أُنتجت الجداريّات الأربعة في زمن حربٍ لا تشبه غيرها من الحروب. وفي الوقت الذي يُبادُ فيه بلدٌ بأكمله؛ بشعبه، وبيوته، وجامعاته، ومكتباته، وشوارعه، ومراسم فنّانيه، نختار، نحن الفلسطينيّين، كما فعلنا دائمًا، أن نركض إلى قلب المعركة، وننتزع من عتمتها ما نستطيع إنقاذه. وكلّما ازدادت شراسة الحرب ازددنا شراسةً في أن نحيا الحياة، وننتج فنًّا بعمرٍ أطول من أعمار الحروب مجتمعةً، فنًّا سيبقى بعد أن تموت الحرب.
وُلدت هذه الجداريّات لتكون نواة المعرض الدائم للمتحف الفلسطيني، لتبقى على جدرانه ما بقي، ولتقدّم شكرًا وعرفانًا لفنّاني جماعة "نحو التجريب والإبداع": فيرا تماري، وتيسير بركات، وسليمان منصور، ونبيل عناني، الذين قادوا حركة تجديد نحو الأمام، متّكئين على موروث شعبهم العظيم. وفي سياق إنتاجها، شارك العديد من الفنّانات والفنّانين الشباب والمتطوّعات والمتطوّعين من كليّة الفنون والموسيقى في جامعة بيرزيت، ضمن شراكةٍ استراتيجيّةٍ أتاحت لنا الجامعة خلالها طلّابها ومساحاتها ومشاغلها ومعدّاتها، تكريسًا لمبدأ "العونة" والتكافل الاجتماعي التطوّعي، الذي شكّل جوهر الانتفاضة الأولى وروحها.
* من بيان تأسيس جماعة "نحو التجريب والإبداع" سنة 1989.