يجلس رجلان أسمران على مقعد خشبيّ في قاعة محكمة في سجن المسكوبيّة، وبتعبيرات تتراوح بين الضّجر والاستهزاء، ينتظران إصدار الحكم عليهما. يعلن القاضي قرار المحكمة بإعدامهما، ليُساقا إلى المشنقة هاتفين بسخرية: "هيب هيب هواري".
عام 1934، أُعدم المقاومان أبو جلدة والعرميط، بعد أن خلقا بزئبقيّتهما الّتي وتّرت الإنجليز والصّهاينة، وهجماتهما المنطلقة من الجبال، صيتًا خلّدته الحكايات والأغاني الشّعبيّة.
لطالما زخر الأدب الشّعبي ّالفلسطينيّ بالحكايات الّتي امتلأ بعضها بالخرافات، وبعضها الآخر بالهزل والتّندّر، والّتي أثّرت جميعها في الفلكلور الفلسطينيّ الّذي صار نتاجًا فريدًا لشعب يعيش ظروفًا استثنائيّة ترفع من أهمّيّة تمسّكه بتاريخه ومعرفته عن ذاته، باعتبار الفلكلور تعبيرًا عفويًا عن الضّمير الجماعيّ والشّخصيّة الجماعيّة.1
في ظلّ الظّروف القاسية والأزمات المتتالية والهجمات الّتي تعرّض لها الفلسطينيّون في عشرينيّات القرن الماضي، وأوائل الثلاثينيّات، كانت هناك حاجة مّاسة إلى بطل يتولّى مهمّة الإنقاذ والتّصدّي للبطش والأخذ بالثّأر. وكانت الحكاية الشّعبيّة وسيلة يوميّة يتداولها الفلسطينيّون من أجل رفع المعنويّات والتّحلّي بالصّبر والشّجاعة، دون أن يعرف أحد مصدرها الحقيقيّ، وكثيرًا ما جرى تهويلها والإضافة عليها وضخّها بالمبالغات الّتي رفعت أبطالها إلى مصافي الأنبياء، دون أن تفقد وظيفتها الأساسيّة باعتبارها تأريخًا لكفاح الأمّة ضدّ الوجود الترّكيّ، والإنجليزيّ، والصّهيونيّ.2
صار هؤلاء الأبطال حكاية أسطوريّة، وزاد من شهرتهم أنّهم ظلّوا جنودًا مجهولين لا يُعرف عنهم الكثير، فهم لم يكونوا رموزًا معروفين ولا قادة سياسيّين، بل ظلّوا يمارسون أفعالهم المقاوِمة في الخفاء، وظلّت أخبارهم تُتناقل بين النّاس، حتّى لم يعد بالإمكان التّأكّد من مصداقيّتها ومصدرها، وصارت قصصهم مع الوقت تأخذ شكلها الأسطوريّ المثير للدّهشة، وهو ما كان على الأسطورة أن تفعله في ذلك الحين: أن تكمل الواقع وتلتحم معه وتسدّ ثغراته.
1936
PALESTINE
LIBRARY OF CONGRESS (G. ERIC AND EDITH MATSON PHOTOGRAPH COLLECTION)
من أوائل العصابات الفلسطينيّة الّتي مارست الكفاح المسلّح وأخذت نصيبًا مميزًّا في الموروث الشّعبيّ الفلسطينيّ عصابة أبو كباري من قرية بيتا، وصالح سليقة من قرية عقربا. تقول الحكاية إنّ القوّات البريطانيّة اتّهمت الأخوين إبراهيم وصالح أبو سليقة بقتل مختار عقربا عام 1922، وألقت القبض على إبراهيم بعد عام، في حين ظلّ شقيقه صالح طليقًا.3 التقى إبراهيم أبو سليقة مع أبي كباري وحميدة الطّمّوني في سجن عكّا، وأثناء محاولتهم الهرب، قتل إبراهيم جنديًّا إنجليزيًّا واستشهد إثر إطلاق رصاص الحراس النّار عليه، في حين فرّ أبو كباري وحميدة الطّمّوني، لينضم إليهما لاحقًا صالح أبو سليقة شقيق إبراهيم. فرّ ثلاثتهم إلى الأردن وظلوا يتسلّلون إلى فلسطين لشنّ هجمات متكرّرة على الدّوريات الإنجليزيّة ثمّ يعودون إلى الأردن. خاض أبو كباري وأبو سليقة العديد من المعارك ضدّ الإنجليز، وشنّوا الكثير من الهجمات مع محاولات الشّرطة البريطانيّة الإيقاع بهم، إلى أن استشهد أبو كباري، في حين ألقي القبض على صالح وحكم بالإعدام، ليُخفّض حكمه لاحقًا إلى حكم بالمؤبّد.4
تحوّلت بطولات أبو كباري وأبو سليقة إلى جزء من الحكايات الشّعبيّة والأساطير الّتي ردّدها النّاس، كما خلّدتهم القصائد والأشعار الشّعبيّة:
والله ما بلبس ثوب لخضاري لو بحكموني حكم أبو كباري
راسي ما اطوّع لهيك زبونا
والله ما بلبس بدلة ركيكة لو بحبسوني حبس أبو سليقة
راسي ما اطوّع لهيك زبونا5
رغم تداخل الحقيقة بالخيال في هذه القصص الشّعبيّة، فإنّه لا يمكن إغفال أثرها على توازن القوى في فلسطين، وإحساس الإنجليز والصّهاينة بالخطر الدّاهم وتخوّفهم من المفاجآت والضّربات القاسية، وهو ما حدا بالإنجليز إلى الإعلان عن مكافآت لمن يجد أيًا من هؤلاء الأبطال أو يدلي بمعلومات تساعد في العثور عليهم. كما تناقلت الصّحف العبريّة أخبارهم يومًا بيوم، ووثّقت قصصهم في بعض الأغاني العبريّة.
ويشير أرئيل شارون في مذكراته إلى رحلته من القدس إلى تل أبيب حيث كان يومها في الخامسة من عمره، قائلًا: "خلال الرّحلة جلست القرفصاء فوق مقعدي، رانيًا بعمق إلى المرتفعات اليهوديّة في محاولة لاكتشاف علامات محتملة لوجود أبو جلدة، الإرهابيّ العربيّ الشّهير، المتخصّص في نصب الكمائن على طريق أورشليم".6
كما كان أبو جلدة والعرميط مصدر خوف للعملاء كذلك، إذ يقول نجاتي صدقي الّذي اعتُقل والتقى بهما في المعتقل إن العرميط قال لأمه من خلف القضبان: "حطّي لي في قبري خنجر، لأصفّي حسابي مع الواشي".7
مع اندلاع ثورة 1936، لم تعد قصص الثّورة وحكايات الأبطال تأخذ طابع التهّويل، حيث استغنى الفلسطينيّون عن المتخيّل بالواقع الذي كان مليئًا بقصص البطولة، بعد أن شملت الثّورة فلسطين من أقصاها إلى أقصاها، وأصبح الجميع أبطالًا ممكنين، وشهدوا جميعًا عشرات المعارك في جبهات القتال في الجبال والقرى والمدن.
سعيد بيت إيبا كان واحدًا من هؤلاء الأبطال الّذين ذاع صيتهم، والّذي استطاع الهروب من زنزانته والالتجاء إلى عائلة آل رشيد. ومع انطلاقة ثورة 1936، بدأ بمهاجمة قوافل السّيارات الإنجليزيّة، وأصبح مطاردًا منذ ذلك الحين، حتّى انضمّ إليه الكثير من أعضاء الكشّافة وأهالي قرى نابلس، وبدأت مجموعته بالتّوسّع. تنقل سعيد خلال الثّورة بين سوريا وفلسطين وشرق الأردن، وتعقّبت سلطات الاحتلال عائلته وأقاربه وهدمت بيوتهم وخرّبت ممتلكاتهم في محاولة القبض عليه. شارك سعيد في الكثير من المعارك، ونجى من العديد من محاولات التّصفية، قبل أن ينتهي به الأمر محاصرًا في معركة بيت ليد حيث استشهد.8
سعيد بيت إيبا، وغيره الكثير من الأبطال والمناضلين ممن شاركوا في المقاومة المسلّحة في ثورة عام 1936، تحوّلوا إلى أيقونات أرّختها الحكاية الفلسطينيّة، ولكنّ حكاياتهم اعتمدت على بطولاتهم الواقعيّة، على خلاف القصص الأسطوريّة قبل النكبة.
قائمة مصادر
- 1كناعنة، شريف. الدار دار أبونا: دراسات في التراث الشعبي الفلسطيني. رام الله: دار الشروق للنشر والتوزيع، 2013، ص 24.
- 2زياد، توفيق. صور من الأدب الشعبي الفلسطيني. عكا: مطبعة أبو رحمون، 1994.
- 3كبها، مصطفى، ونمر سرحان. سجل القادة والثوار والمتطوعين لثورة 1936 - 1939، كفر قرع: إصدار دار الهدى، 2009.
- 4العقرباوي، حمزة. "صالح أبو سليقة من رواد النضال الشعبي في فلسطين" 2011، https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/239515.html
- 5المصدر السابق.
- 6شارون، أرئيل. مذكرات أرئيل شارون. بيروت: مكتبة بيسان، 1992، ص 26.
- 7صدقي، نجاتي. مذكرات نجاتي صدقي. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001، ص 102.
- 8.كبها وسرحان. سجل القادة والثوار والمتطوعين، ص 398