متربّعينَ على المفارش الأرضيّة، متّكئين على أكتاف بعضهم، يتكدّس الطّلاب في غرفة المعيشة في أحد بيوت قرية كوبر قضاءَ رام الله، يحاولون أثناء تركيزهم في درس التكاملِ تجاهلَ الرّائحة الزّكيّة المنبعثة من المطبخ، ظهيرةَ يوم اعتيادي من خريف عام 1988، فيما تَجهَد ذاكرة المعلّمة في استرجاع ما درسته في ذلك المبحث، قبل عقدين أو أكثر.
لا تشبه هذه "المدرسة" قريناتها الاعتياديّة: لا طوابيرَ صباحيّةً هنا، ولا أجراسًا تُقرع، ولا ممرّاتٍ رماديّةً باردةً بنوافذَ ذات قضبانٍ حديديّةٍ متقاربةٍ. في مدرسة كوبر ومثيلاتها، قد تدرس مع شقيقك غير التوأم في الصّف ذاته، كونه الصّفَّ الوحيد على الأرجح، وقد تدرّسك خالتك، أو بنت الجيران الجامعيّة، وقد ينتقل مكان الحصّة إلى بستان عائلة زميلتك إذا كانت ستساعد أهلها في الحصاد، بل قد تتغيّر فحوى الدّرس ليتناول أنواعَ المحاصيلِ التي يمكن زراعتها الموسمَ المقبل، وكيف يمكن وقايتُها من الحشرات.
جاءت هذه المدرسةُ الاستثنائيّة، ومثلُها الكثير، وليدةَ ظرفٍ استثنائيّ؛ ظرفٍ فَرض على المجتمعِ الفلسطينيّ، في قطاع غزة والضّفّة الغربيّة بما فيها القدس، إعادةَ توزيعِ مصادِره وترتيبَ أولوياته بما يتوائم مع المهمّة النّضاليّة التي بدأ نشوؤها مع تفجّر الانتفاضة الأولى عام 1987. وكان التّعليم من بين تلك الأولويّات التي لم يُزحها هولُ الاضطراب الذي وقع على الحياة اليوميّة للفلسطينيّين، ولا أعباءُ المرحلة التي اتّخذت المواجهةَ عنوانَها.
قد تكون قصّة التّعليم الشّعبي، الذي برز بصفته محاولةَ تكيّف عقبَ الهجومِ الإسرائيليّ الذي تعرّض له قطاعُ التّعليم الفلسطينيّ؛ خيرَ مثال على التّضامن الاجتماعيّ الذي ميّز الانتفاضة الأولى، والذي ذوّب الخطوطَ الفاصلةَ بين العسكريّ أو الرّسميّ والشّعبيّ، لتأخذَ جميعُ فئات المجتمع أدوارَها المختلفة في تلك المواجهة.
ظهر الشّكلُ الأول لحضور القطاع التّعليميّ في مشهد الانتفاضة من خلال رفد المدارس والجامعات لها بأبنائها وبناتها الذين شكّلوا عصبها الثّائر. فحين تفجرّت الانتفاضة في كانون الأول 1987، كان في الضّفّة والقطاع أكثر من نصف مليون طالبٍ مدرسيّ، وما يزيد على 20 ألفِ طالبٍ جامعيّ.1 ولم يكن هؤلاء بطبيعة الحال بمعزلٍ عن الحالة الثّورية التي عمّت البلاد، ونالوا كغيرهم حصّتهم من قمع إسرائيل. ففي السّنة الأولى من عمر الانتفاضة، سقط 166 شهيدًا من الطّلاب، وكان ما يقارب نصف مجموع شهداء الانتفاضة طلابًا وطالبات. كما أنّ الطلاب دفعوا ضريبةَ انخراطهم في العمل النّضاليّ بأشكاله كذلك، بالإصابة أو الاعتقال أو الإبعاد أو المنع من السّفر.2
ولم يكن هؤلاء بطبيعة الحال بمعزلٍ عن الحالة الثّورية التي عمّت البلاد، ونالوا كغيرهم حصّتهم من قمع إسرائيل. ففي السّنة الأولى من عمر الانتفاضة، سقط 166 شهيدًا من الطّلاب، وكان ما يقارب نصف مجموع شهداء الانتفاضة طلابًا وطالبات. كما أنّ الطلاب دفعوا ضريبةَ انخراطهم في العمل النّضاليّ بأشكاله كذلك، بالإصابة أو الاعتقال أو الإبعاد أو المنع من السّفر.2
أما المعلّمون والمعلمات، الذين بلغ عددهم 17 ألفًا في غزّة والضّفّة والقدس، فأُسر منهم 790 فردًا، وأبُعد واستشهد الكثيرون، إضافةً إلى من تعرّض لحالات متكرّرة من الفصل التّعسّفي والإحالة القسريّة للتّقاعد، إلى جانب أكثر من 8 آلافٍ طالتهم خصومات الرّواتب.3
Alongside the students themselves, the educational institutions established by popular initiative became direct targets for the various forms of repression, especially since they served the function of fostering future revolutionaries. Many schools were exposed to violent raids as was the case of Dar al-Tifil, Dar al-Fata Al-laji'a, and Dar al-Awlad in 1988 in Jerusalem. These incursions also resulted in the assault of faculty members, as has happened in the two schools of Falastin al-Thanawiyya and Ibn Sina in Gaza.4
لم تكن هذه الاقتحامات تمرّ دون اعتداء على أعضاء الهيئة التدريسيّة كما حدث في مدرستي فلسطين الثانوية، وابن سينا في غزّة.4
وتعرضت عشرات المدارس، أحيانًا بشكل متزامن، لإغلاقٍ كلّيّ وجزئيّ لفتراتٍ بلغت أحيانًا أكثرَ من مئة يوم.5 باتت هذه المدارس المغلقة في بعض الأحيان تحت يد إسرائيل مباشرة. فقد حوّلت قوّات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من أربعين مدرسةً ثكنةً عسكريّةً مستخدِمةً إيّاها لأغراضٍ قتاليّةٍ وأمنيّة. وكثيرًا ما رافق هذا السّطوَ تدميرُ كافّة ممتلكات المدرسة والعبث بها وإحراقها أو كتابة شعاراتٍ معادية للعرب داخلَها.6
تكاد الرّسالة التي شكلّها استهداف المدارس والجامعات تكون فجّةً في وضوحها: التّعليمُ يهدّدُ أمنَ إسرائيل. إعلاميًا، ادعت إسرائيل مرارًا أنّ إغلاقَ المدارسِ يهدّئ من وتيرة أعمال "العنف والشّغب" في "المناطق". لكنّ مراجعةَ تزامنِ العمليات الفلسطينيّة المقاوِمة مع فتح المدارس أو إغلاقها يفنّد هذا الزعم، وهو ما توضّحه معلوماتٌ أوردها العقيد الصّهيونيّ أريه شلاف، وهو ناطقٌ سابق باسم جيش الاحتلال واكبَ أحداث الانتفاضة عن كثب، في كتابه "الانتفاضة، الأسباب، المميّزات والآثار".
فبحسب كتاب شلاف، لم ينخفض عدد العمليّات المقاومة بعد شباط 1988، أي بعد الإغلاق الواسع للمدارس. كما لم يرتفع بعد فتح المدارس مرّة أخرى في أيّار من نفس العام، بل انخفض. لكنه عاد للارتفاع بشكل ملحوظ بعد تموز، في فترة لم تكن فيها المدارس مغلقةً بشكل ثابت، وإنّما كان التّدريس فيها متذبذبًا. إذ ارتفع عدد العمليات من 1997 في آب إلى 2438 في أيلول، قبل أن يعود للهبوط في تشرين الأول والثاني، وهو ما تبعه عودة المدارس للانتظام. لكن مرة أخرى، عاد عدد العمليات للصّعود مع نهاية السّنة، ولم ينخفض مع قرار إغلاق المدارس ثانية مطلع عام 1989.
تُبرز هذه المقارنات أنّ إغلاق المدارس لم يؤثّر على زخم الانتفاضة الفلسطينيّة، بقدر ما كان أحد أدوات العقاب الجماعيّ الذي فرضه الاحتلال على المجتمع الفلسطينيّ بمختلف قطاعاته. كما لم تكن إعادة فتح المدارس في النهاية نتيجةً لانخفاض وتيرةِ الأعمال النّضاليّة بقدر ما كانت ردًا على صعود ما سيُصطلح على تسميته "التّعليم الشّعبيّ".7
"لتفتح المدارس"
1989
من مجموعة علي قزق، المتحف الفلسطيني©
إفشال "سياسات التّجهيل"
بعد الشّهور الأولى من عمر الانتفاضة، لم يكن خفيًا أنّ أثر توالي إغلاقات المدارس وانعدام الانتظام في التّدريس يتجاوزُ احتمال إصابة الأطفال بالضّجر أو أهاليهم بالصّداع النّصفيّ. فقد كان واضحًا أن الفراغ الذي خلقه غياب الدراسة المنتظمة يجب ملؤه سريعًا.
بيانات الانتفاضة، الصّادرة عن القيادة الوطنيّة الموحّدة، والتي كانت منبرًا هامًا في التّوجيه نحو النّضال، عكست في الفترة الأولى لإغلاق المدارس رغبةً في ضمّ الطّلبة والأكاديميّين إلى جمهور المنتفضين والاستفادة من طاقاتهم نضاليًا. وتمثّلت هذه الرّغبة في دعوات صريحة كما في البيان الثّالث للانتفاضة، الذي دعا إلى "تعبئة" جماهير الطّلبة "في مدرسة الثّورة، في مدارس الكفاح والنّضال في الشّوارع، لتشارك في زلزلة الأرض وحرقها تحت أقدام الاحتلال".
لكن هذه الدّعوات، التي استجاب لها كثيرٌ من الطلبة، إن لم يكونوا قد سبقوها، لم تلغِ الوعي بضرورة استكمال جماهير الطّلاب لتعليمهم. فقد كانت القيادة تدرك خطورة إهمال تعليم جيل بأكمله، وأثره على المدى البعيد.
وهو ما عكسه البيان العاشر للقيادة الوطنيّة الموحّدة في 2 آذار 1988، الذي جاء فيه:"إنّ أحد أركان السّياسة الصّهيونيّة تقوم على تجهيل شعبنا وحرمانه من أبسط الحقوق التي نصّت عليها المواثيق والأعراف الدّوليّة وهو الحقّ في التّعليم، ولذلك فقد أقدمت سلطات الاحتلال على إغلاق كافة مؤسّساتنا التّعليميّة من جامعات ومعاهد عليا ومدارس، حارمةً بذلك حوالي ثلث مليون طالب من تلقّي العلم.
إنّ القيادة الوطنيّة الموحّدة للانتفاضة قرّرت التّصدّي لقرارات الاحتلال العنصريّ بكسر هذه القرارات، وتدعو الطلبة والمدرّسين وإدارة المؤسّسات التّعليميّة (..) لتحدّي قرار سلطات الاحتلال بتنظيم عمليّة التّعليم على أساس وطنيّ وإفشال سياسة التّجهيل التي تمارسها على جماهير شعبنا".
مع توالي البيانات والنّداءات الصّادرة عن القيادة الموحّدة، الدّاعية إلى تعميم فكرة التّعليم الشّعبي، انتشرت مدارس الأحياء وبدأت تنتظم. إذ دعا البيان العاشر بتاريخ 10 آذار عام 1988 إلى أن "تقوم كلّ منطقة بتحديد لحظة البداية لدوام مدارسها ومعاهدها وجامعاتها حسب ظروفها الخاصّة، على أن يكون الدّوام محددًا بثلاث ساعات من الصباح وحتى الحادية عشرة أسوة بقطاعات شعبنا المناضلة".
Teachers and educational administrators also adopted this pattern of education. For instance, on April 5 1988, a conference orchestrated by the educational sector's workers' union recommended to adopt and disseminate popular education.9
عمليّة تعليميّة نضاليّة
لكنّ التعليم الشعبي لم يكن أسلوبًا للحفاظ على استمرارية التعليم فحسب. فقد جرى تثوير المناهج وأساليب الدّراسة بما تماشى مع الحالة الثّورية بعامّة، إضافةً إلى "فلسطنة" المحتوى الدّراسي وجعله أكثر التصاقًا بالهويّة الفلسطينيّة والنّضالات الوطنيّة، كما انفتحت العمليّة الدّراسيّة لوسائل تعليم مختلفة كالصحف والمجلّات والكتابة على الجدران والموسيقى، وتدنّت أهمّيّة طرق التّقييم المعتادة في نظم التّعليم الرّسميّة، كالامتحانات والواجبات.9
بسبب هذا التّزاوج بين التّعليمي والنّضالي، ومع انتشار التّعليم الشّعبي ليشمل 40٪ من طلاب الأراضي المحتلّة،10 لم تنتظر سلطات الاحتلال طويلًا قبل أن تعلنَ اللجانَ الشّعبيّةَ المشرفة على مدارس الأحياء لجانًا ممنوعة، وعليه اعتُبرت كلّ محاولة لتدريس أيّ مجموعة من الطّلبة نشاطًا تخريبيًا معاديًا. وبهذه الحجّة أغلقت سلطات الاحتلال جمعيّة أصدقاء جامعة النّجاح لمدّة عامين، وصادرت بطاقاتِ الإعارة من مكتبة الجامعة الإسلاميّة في محاولةٍ لتشخيص أسماء الطلبة المنتظمين في مساقات التّعليم الخاصّة.11
في قرية كوبر، حوّلت مجموعة من 12-14 شخصًا عددًا من الغرف القديمة إلى صفوف مدرسيّة ومضوا من بيت إلى بيت يدعون الطّلّاب للانضمام. كانت المدرّسات في هذه الصّفوف من أمهات القرية اللواتي لم يسبق لإحداهن التّدريس، وكان الطّلاب أطفالًا متفاوتين في الأعمار أحيانًا، يتناوب بعضهم على دور الحارس الذي ينذر البقيّة حالَ وصولِ مركبات جيش الاحتلال لضبط هذه التّجمعات الممنوعة.
كانت مرونة تلك المدارس أحد أهم تمثّلات ثوريّتها. فحين كانت بعض الفتيات تضطرّ للتّخلّف عن الدّرس لمساعدة أهلها في الحقل، كان الصّف بأكمله ينتقل هناك. محتوى الدروس نفسها شَملَ الزّراعة وعلاقة الفلّاح بالأرض. كان الطلاب يتعاملون مع منشورات الانتفاضة حين تصل باعتبارها مادةً للإعراب في درس قواعد اللغة العربيّة، ثمّ يناقشون مضمونها ضمن درس العلوم السّياسيّة.12
تخبرنا تجربة التعليم الشعبي هذه عن مدى ثوريّة هذا النّمط من التّعليم الذي نشأ من قلب الإجماع المجتمعيّ على قرار التّحدي والمواجهة، وعن إمكاناته الواسعة، ليس فقط لاستبدال التّعليم الرّسميّ بشكل مؤقت، بل لاستكشاف أساليبَ تعليميّةً أكثر إنسانيةً وأشد تجذرًا في المجتمع.
قائمة مصادر
- 1الزرو، صلاح. التعليم في ظل الانتفاضة. الخليل: رابطة الجامعيين، مركز الأبحاث، سلسلة الدراسات التربوية رقم 4، 1989، ص 15 - 22.
- 2المصدر السابق، ص 48 - 51.
- 3المصدر السابق، ص 48 - 51.
- 4المصدر السابق، ص 39.
- 5المصدر السابق، ص 28.
- 6المصدر السابق، ص 30.
- 7المدهون، ربعي. "هدوء نسبي ظاهري". شؤون فلسطينية العدد 183، بيروت: مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، 1988، ص 135.
- 8الزرو، صلاح. التعليم في ظل الانتفاضة، ص 59.
- 9Hussein, Yamila. The Stone and the Pen: Palestinian Education During the 1987 intifada. The Radical Teacher, No. 74, TEACHING IN A TIME OF WAR, PART 2, 2005. pp. 19 - 20.
- 10المدهون، ربعي. "هدوء نسبي"، ص 135.
- 11الزرو، صلاح. التعليم في ظل الانتفاضة، ص 59-60.
- 12Hussein, Yamila. The Stone and the Pen, pp. 19 - 20.