إن كانت سرقةُ الأرضِ العنوانَ العريضَ لمرحلة الانتداب البريطانيّ في فلسطين، فإن ما سُرق لم يكن الأرضَ وحدها، بل قوتَ آلاف الفلسطينيّين ونمطَ معيشتهم وجزءًا من هويّتهم. ورغم أنّ الفجوة الّتي خلقها فقدان الأرض ستطبع الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة لعقود تالية، فإنّها في الوقت ذاته صارت سببًا متجدّدًا من أسباب المقاومة، سيظلّ يفجّر الثّورات والانتفاضات منذ 1936 وحتّى اليوم.
دخل الفلسطينيّون عقدهم الثّاني من القرن الماضي وقد أنهكتهم الكوارث الطّبيعيّة والأزمات العالميّة، ففما لبث الجراد أن أتى على الأخضر واليابس عام 1915، حتّى تعرّضت فلسطين لزلزال مدمّر عام 1927، ليصل الانهيار الاقتصاديّ أوجه خلال الأزمة الاقتصاديّة العالميّة عام 1929، والّتي طال فلسطين منها ما طالها.1
شارع مسدود من ردم المنازل المهدومة في نابلس المتأثرة بالزلزال عام 1927
أجّجت هذه الأزمات المتوالية تسلّط حكومة الانتداب البريطانيّ وسياساتها في مكافحة التمرد. فمنذ اللّحظة الأولى الّتي سيطرت فيها الإدارة البريطانية على البلاد فرضت على الفلسطينيّين ضرائب باهظة عملت على جبايتها بالنّقد المصريّ، دون مراعاة الظّروف الاقتصاديّة البائسة الّتي يعيشونها.2 كما عمدت السّلطات البريطانيّة إلى تضييق الخناق على الفلّاحين بمنعهم من استخدام السّكّة الحديديّة لشحن محاصيلهم، ما أدّى إلى تراكمها وكسادها وانخفاض أسعارها، وكنتيجة حتمية، عدم تمكّنهم من تسديد الضّرائب.
كانت هذه السّياسة المدروسة تهدف إلى ما هو أبعد بكثير من أموال الضّرائب. لم يكن أمام الفلسطينيّين في تلك الفترة سوى اللّجوء إلى رهن أراضيهم من خلال المرابين اليهود، وفي حال تجاوز وقت السّداد، كانت ملكيّة الأراضي تنتقل للمرابي بقرار من المحكمة.3
وَسَمَ تسريبُ الأراضي إلى اليهود تلك الفترةَ الّتي عاشها الفلسطينيّون تحت حكم الانتداب البريطانيّ، وقد اتّبعت الحكومة البريطانيّة كلّ الوسائل من أجل المضيّ قدمًا بهذه الخطّة، حتّى أنّها عمدت إلى تغيير قوانين ملكيّة الأراضي لتسهيل من سيطرة اليهود على أراضي الفلسطينيّين، كان منها قانون الأرض المحلولة وقانون الأراضي الموات وقانون نزع الملكيّة، والّتي حدّت جميعها من ملكيّة الفلسطينيّين للأرض، وسهّلت على الحكومة البريطانيّة نزع مساحات ضخمة من أراضي الفلّاحين وتسجيلها باسم الدّولة، مستندة في ذلك إلى ثغرات في القانون، وعامدة إلى بيعها للشّركات والمستوطنين اليهود دون أن يتمكّن الفلسطينيّون من مقاومة هذا النّهب الممنهج.4
ومع استمرار تدفّق المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ضاعفت سلطات الانتداب البريطانيّ من عمليّات سرقة الأراضي عبر قوانين الملكيّة الّتي استحدثتها، وهو ما زاد من سيطرة اليهود وتملّكهم، ناهيك عن نشاط الوكالة اليهوديّة الّتي تخصّصت بشراء مئات الآلاف من الدّونمات عبر ملاّكين عرب غير فلسطينيّين، ما مكنها من شراء أراضي مرج ابن عامر ووادي الحوارث خلال عمليات شراء مدروسة، وبعد شراء جميع الأراضي من مالكيها عرب، كثفت الوكالة من عملها من أجل شراء الأراضي من الفلسطينيّين أنفسهم.5
لم تكتف بريطانيا بوضع يدها على الأرض الفلسطينيّة ونقلها إلى اليهود، وإنما سعت أيضًا إلى محاربتهم في قوتهم اليوميّ وتحويلهم إلى عاطلين عن العمل. هذه السياسات صعّدت من الأزمة الاقتصاديّة الّتي يعيشها الفلسطينيّون6، والّتي وصلت أقصى درجاتها مع تسجيل أكثر من 12 ألف فلسطينيّ عاطل عن العمل مع نهاية عام 19307، فضلًا عن تحول الكثير من الفلّاحين إلى أيدٍ عاملة غير ماهرة ورخيصة في التّنظيفات وشركات السّجائر والتنباك العربيّة، وغيرها.8
جنود الانتداب البريطاني يدققون الهويات عند مداخل المدينة القديمة في القدس عام 1936
أدّى تفرّد سلطات الانتداب بالقرار، ومحاباتها الصّريحة للقوى الصّهيونيّة في فلسطين، إلى جانب سوء الإدارة والتّنسيق وضعف البنية التّركيبيّة القياديّة الفلسطينيّة، إلى تنامي الاقتصاد اليهوديّ على حساب أصحاب الأرض، ومنحهم كافة الامتيازات الّتي مكنتهم من وضع اليد على ثروات البلاد من خلال تملّك الشّركات الكبرى والمشاريع الرئيسيّة، مثل مشروع كهرباء فلسطين، ومشروع تجفيف بحيرة الحولة، وميناء تل أبيب، وغيرها.
ومع مرور العقود الثلاث الأولى من القرن الماضي، كان الفلسطينيّون قد وصلوا إلى نقطة الصفر، بعد أن جرّدهم الاستعمار البريطانيّ والحركة الصّهيونيّة من كلّ أسباب الحياة على أرضهم، ودفعا بهم بكل الطّرق نحو المقاومة الّتي كانت عنوان المرحلة القادمة.
الفلاحون يصنعون الثّورة
خلال سنوات الانتداب البريطانيّ، تلقّى الفلّاحون والفقراء الضّربة الأقسى بعد أن فقدوا أراضيهم بتسريبها إلى أيدي اليهود، وتحويلهم في المجمل إلى عاطلين عن العمل، غير قادرين على تأمين قوت عائلاتهم، ليتحوّلوا بذلك إلى الوقود الّذي أشعل فتيل الثّورة، وأصحاب المصلحة الحقيقيّة فيها.
بدأت الثّورات المتتالية الّتي خاضها الفلسطينيّون منذ عشرينيّات القرن الماضي من الفقراء والفلّاحين الّذين خطّطوا لها واحتضنوها وعملوا على رعايتها وحمل مشعلها. ومنذ ثورة القسام، جاء قادة الثّورات من هذه الطّبقة، فمثلًا، كان العبد القاسم، الّذي استشهد في أوائل الثّورة، فلّاحًا وبائعًا في حيفا، وكان علي محمود زعرور، أحد أوائل القسّاميين، أيضًا فلّاحًا وبائعًا، وكان محمد صلاح الذي استشهد في معركة بويا في نابلس عام 1938 فلّاحًا ثمّ بائعًا متجوّلًا لديه طنبر، وأبو إبراهيم الكبير كان صاحب دكان صغير لبيع الأكياس، ويوسف أبو درّة والشّيخ فرحان السّعدي وغيرهم من القادة الفقراء.9
عمل هؤلاء القادة وغيرهم من الثّوار على تلبية احتياجات الثّورة والإنفاق عليها من أموالهم، كما عملوا على جباية الأموال لصالحها من خلال الاشتراك الشّهري والتّبرّعات الطّوعيّة، وكان على كلّ مرشّح لعضوية القسّام، على سبيل المثال، تأمين سلاحه الشّخصيّ على نفقته الخاصّة، حتّى أنّه يمكن القول إنّ الثوار كانوا ينفقون من عملهم الشّخصيّ على عملهم السّياسيّ.10
شكّل الفلّاحون والفقراء في الثّورة الكبرى ما يزيد على 90% من الثّوار. تمكّن هؤلاء من إعلان ثورة انضمّت إليها كافّة شرائح المجتمع لاحقًا، استطاعوا خلالها تصعيدَ مواجهاتهم ضدّ الإنجليز واليهود.
في وقت مبكر من الثّورة، أدرك الفلسطينيّون نجاعة المقاومة الاقتصاديّة وأهمّيّتها في خلق حالة من التّوازن وتحقيق انتصارات على الأرض، خصوصًا مع الفجوة العسكريّة الكبيرة الّتي تضعهم في أسفل الهرم من ناحية القوّة والقدرة على شنّ حرب قتاليّة. لذا، أعلنوا الإضراب الشّامل الّذي شلّ كافّة المرافق الاقتصاديّة، بعد أن لم يبق لديهم الكثير ليخسروه بفقدانهم معظم أراضيهم وأملاكهم. ومع اشتعال الثّورة واحتدام القتال ضدّ القوّات البريطانيّة واليهود، بدأ الفلسطينيّون بتنفيذ عمليّات نوعيّة ذات طابع تدميري لموارد القوات البريطانيّة واليهود على حدّ سواء ومنشآتهم وممتلكاتهم، وذلك ردًّا انتقاميًّا لزعزعة من القدرات الاقتصاديّة البريطانيّة ولمضاءلة تفوّقهم العسكريّ على الأرض. وأدّى الإضراب بشكل مباشر إلى توقّف الأعمال الحكوميّة والزّراعيّة والبناء، كما توقف الميناء في يافا، وأوقفت المصانع اليهوديّة جرّاء إضراب العمّال العرب في مقالع الحجر.
طالت عمليّات الثّوار أهدافًا استراتيجيّة، فقد عمدوا منذ اللّحظة الأولى إلى تدمير حركة المواصلات الّتي شكّلت أهدافًا سهلة، إذ كانت المواصلات البريطانيّة واليهوديّة الجهةَ الوحيدةَ الّتي تتحرّك منذ بدء الإضراب.11
كما نفّذوا عمليات تخريب شعبيّة ضد المحاصيل والأحراش، أسفرت عن حرق 80 ألف شجرة حمضيات، و62 ألف شجرة فواكه منوّعة، و64 ألف شجرة حرجيّة، وإحراق 4000 فدّان من المحاصيل الأخرى، ممّا كبّد الحكومة البريطانيّة خسائر وصلت إلى حوالي 5.3 مليون جنيه استرلينيّ.12 وضربت العمليات المتفرقة عددًا من المواقع والمنشآت الاقتصاديّة الرئيسيّة، طالت خطوط الحديد وأنابيب البترول، وما إن أتى منتصف أيّار حتّى كانت السّياحة في فلسطين متوقّفة بالكامل.13
هذه الهجمات الّتي ضربت عمق الاقتصاد البريطانيّ والوجود اليهوديّ في فلسطين أحدثت خلخلة في التّوازن الذي اعتقد الاستعمار أنّه كان قد اكتسبه بينما يتضوّر الفلسطينيّون جوعًا، كما أحدثت خللًا في موازين القوى، ولو لوقت قصير، على حساب العدو الّذي حصّن نفسه على مدار سنوات طويلة بالقوة العسكريّة، وهو ما يُستدلّ عليه بالبيان البريطانيّ الرّسميّ، الّذي وصف البؤس الّذي آلت إليه حال الانتداب في ذلك الوقت.
"اشتملت أعمال هذه العصابات المسلّحة على محاولات متكرّرة في شلّ المواصلات، وقطع خطوط البرق والهاتف، وإخراج القطارات عن الخطّ، وعلى محاولات لمنع حركة السّير على الطّرق العامّة، وتسبّب ذلك بوقوع أضرار مادّيّة عظيمة ألحقت ضررًا فاحشًا باقتصاد البلاد، ووقعت محاولات عديدة لتدمير خط أنابيب البترول بين حيفا والعراق، وإشعال النّار في المتدفّق منها، وثمّة نتيجة مهمة أسفر عنها الإضراب في إقفال مرفأ يافا إقفالًا فعليًّا، وإن كان مرفأ حيفا لم يتأثر لغاية الآن إلّا قليلًا، لحسن الحظ".
قائمة مصادر
- 1نخلة، كامل محمود. فلسطين والانتداب البريطاني. بيروت، 1974، ص 25
- 2الجندي، رضوان إبراهيم. سياسة الانتداب البريطانية الاقتصادية في فلسطين 1922 – 1939. عمان: منشورات دار الكرمل، صامد، 1986، ص 17.
- 3المصدر السابق، ص 18
- 4ياسين، عبد القادر. ثورة 1936 الوطنية الفلسطينية: معالي أحمد عصمت، وقائع الثورة.القاهرة: مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، 2007، ص 181.
- 5كبها، مصطفى داوود. ثورة 1936 الكبرى دوافعها وانعكاساتها. الناصرة: منشورات مكتبة القبس، 1988، ص 26 – 27.
- 6حمادة، سعيد. النظام الاقتصادي في فلسطين. بيروت: المطبعة الأميركانية في بيروت، 1939.
- 7الكيالي، عبد الوهاب. تاريخ فلسطين الحديث. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999، ص 223.
- 8كنفاني، غسان. ثورة 36 – 39: خلفيات وتفاصيل وتحليل. القدس: مطبعة الناصر، الوكالة الفلسطينية للصحافة والنشر، ص 30.
- 9حسونة، خليل إبراهيم. الثورة الشعبية الفلسطينية: ثورة 1936 نموذجًا. غزة: المركز القومي للدراسات والتوثيق، 2001، ص 55 - 56.
- 10كنفاني، ثورة 36 - 39. ص 59- 60
- 11خليفة، أحمد. الثورة العربية الكبرى في فلسطين: الرواية الإسرائيلية الرسمية. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1989، ص 18.
- 12تاريخ الهاجاناة. المجلد الثاني، الجزء الثاني، 1959، ص 650.
- 13ياسين، عبد القادر. ثورة 1936 الوطنية الفلسطينية: معالي أحمد عصمت، وقائع الثورة. القاهرة: مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، 2007، ص 99.
- 14العسَليّ، بسام. ثورة الشيخ عز الدين القسام. بيروت: الناشر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1991، ص 157.