في معرض "بأمّ عيني"، نُدعى إلى الغوص في عمق الزمن الفلسطيني الحيّ عبر عدسة المصوّرة الفرنسيّة جوس دراي، والتي تُعرّف عن نفسها بأنّها "مصوّرة مقاومة". في زمن كان الوقوف فيه إلى جانب فلسطين بمثابة انتحار مهني، تجرّأت دراي على توثيق فظائع الاحتلال، وتتبّع أعمال المقاومة الفلسطينيّة التي لم تهدأ في الأرض المحتلّة، وفي مخيّمات اللجوء في لبنان، مسجّلةً لحظات الصدق والجرأة، عبر شهادة بصريّة لمعاناة شعب لم يتوقّف عن الصمود تحت الاحتلال، بدءًا بمجزرة صبرا وشاتيلا، مرورًا بالانتفاضة الأولى المجيدة، وانتهاء بفترة أوسلو والانتفاضة الفلسطينيّة الثانية.
لم يكن خيار التقاط ما يجري بالصوت والصورة متاحًا دائمًا في حالتنا الفلسطينيّة، ما جعل حكايتنا عرضة للتشويه والإسكات والإنكار. ينطبق هذا على تهجيرنا الأوّل، عندما انشغل الناس بالنجاة عن الكتابة، وبسلامة الأبناء والأرواح عن التوثيق، وحين سُرقت حياتنا، وممتلكاتنا، والأدلّة على وجودنا في الصور والوثائق، أمام أعيننا.
في خضمّ حرب الإبادة على غزّة، قيل إنّ ما يجري على الأرض فاض على العالم بملايين المقاطع الصوتيّة والصور والفيديوهات التي تبدو وكأنّها مشاهد من أفلام الرعب! ولكنّنا، كفلسطينيّين، نرى الأمر من منظور آخر: ما يجري اليوم جرى بالأمس، وما نشاهده اليوم من عدسة الكاميرا، ما هو إلّا تكرار لماضٍ ظلّ مبهمًا، إلّا من بعض روايات كانت بالنسبة إلينا ضربًا من ضروب الخيال!
وإذا كنّا قد سمعنا حكايات النكبة والنكسة، وما بينهما من لحظات مصيريّة تاريخيّة، من جدّاتنا وأمّهاتنا، فإنّنا نرى تلك القصص اليوم مع كلّ صورة، وكلّ صرخة، وكلّ جسد مُسجّى، وكلّ حجر سقط فوق رأس ساكنيه، وكلّ هجرة إلى الجنوب، وكلّ نزوج في الخيام، وكأنّها تصوّر لنا قصّة لم نشاهدها، ولكنّنا حفظناها عن ظهر قلب.
ومع هذا كلّه، ليست فلسطين نصًّا واحدًا تراجيديًّا، لكنّها زمن تتداخل فيه ملايين القصص والحكايات الفرديّة والجماعيّة، التي نُسجت من تجارب المقاومة، والحياة المريرة والملهمة في آن، وهو تختزله أمامنا هذه الصور. يساعدنا هذا المعرض في محاولة فهم اللحظة الراهنة، والحدود اليوميّة بين العادي والملحمي، وما بينهما من طقوس للحياة والموت والانتظار. يضعنا المعرض أمام مشاهد قديمة جديدة، بلا تسلسل زمني أو خطّ روائي ناظم، لنقرأها كيفما نشاء، ومن أين نشاء، ولنفتح باب السؤال حول أيّ المنعطفات القادمة سيحملنا إلى الحريّة.
هذا المعرض ليس مجرّد مجموعة من الصور الفوتوغرافيّة، إنّه أرشيف حيّ لعلاقة متداخلة ما بين الماضي والحاضر، نعيد به فهم الماضي وتصوّر المستقبل، اللّذَين يدوران في دائرة "لا تبدأ إلّا لتنتهي، ولا تنتهي إلّا لتستمرّ" كما يقول غسّان كنفاني.
جوس دراي
مصوّرة صحفيّة، تحبّ أن تعرّف عن نفسها بأنّها "مُصوّرة المقاومة". بدأت عام 1987 في توثيق القصّة اليوميّة لمقاومة الشعب الفلسطيني، وعُرضت صورها الفوتوغرافيّة في العديد من المعارض والمنشورات، منها: "ذكريات جنين، 1989-2002"، و"الأبواب الجديدة في القدس، الفصل العنصري الإسرائيلي" (2002)، و"فلسطين بين زرقة السماء ورمال الذاكرة" (2003). حصلت على جائزة الشرف من منتدى الإعلام الفلسطيني في إسطنبول. توجد أعمالها في مكتبة التوثيق الدوليّة المعاصرة (BDIC)، كما يُتاح أرشيفها كاملًا على موقع الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني.
بالإضافة إلى عملها في فلسطين، أجرت جوس دراي بحثًا وتوثيقًا فوتوغرافيًّا للهجرة في فرنسا. فمنذ سبعينيّات القرن الماضي، عملت على توثيق الظروف المعيشيّة للعمّال والعائلات المهاجرة، مركّزة على موضوعات مثل: السكن، والعمل، والحياة الاجتماعيّة، والنضال، وحراك الشباب، والاستحواذ على الفضاء العامّ، والتظاهرات الثقافيّة.
أقامت عددًا من المعارض، منها: "لا يزالون يسيرون"، تكتيكوليكتيف (2013)، و"ترحال النساء في حركة العالم" (مجموعة "بعض منّا"، بلانك ميزنيل) (2011)، و"مسارات النساء في ترحال دروب الهجرة"، معهد العالم العربي (2011). كما شاركت في تأليف عدد من الكتب، من بينها: "نساء بألف باب"، بالتعاون مع ليلى هوّاري (EPO-Syros) (1996)، و"حيّ في حركة، قافلة الأحياء"، بالشراكة مع "باسم الذاكرة" ومؤسّسة الأب بيير (1999)، و"الحرب الإسرائيليّة على المعلومات"، بالتعاون مع دينيس سيفيرت ( (La Découverte(2002)، و"القلب المتروك" ((La Dispute (2004)، و"الفلسطينيّون: تصوير الأرض وشعبها من 1839 إلى اليوم"، بالتعاون مع إلياس صنبر (2004)، و"الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية" لرمزي بارود (2012).