ليست المجرزة في غزّة فعلًا ماضيًا نقرأ عنه في الكتب والأرشيفات، بل فعلًا مضارعًا مستمرًّا، نراقب حدوثه أمام أعيننا، ونسمع صوته العالي عبر الأثير، ونرى أثره في وجوه الناس، وفي لفتاتهم، وصمتهم، وانطفاء أعينهم. وفي الليل، عندما ينام العالم، ونضع رأسنا فوق الوسادة، تصحو المجزرة في مخيّلتنا، وتصرخ في منامنا.
كجغرافيا، كان الفصل بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة والداخل المحتلّ يتبدّد في المظاهرات، التي أخذت تختفي من الشارع شيئًا فشيئًا، مع صوت الهتاف الذي كان يتردّد عاليًا، استجداءً مرّةً وتنديدًا مرّةً أخرى، وما زلنا نتذكّر كيف كانت المجزرة هناك تعني غضبًا هنا، والمجزرة هنا تعني غضبًا هناك.
تضعنا هذه المجزرة المستمرّة وغير المسبوقة أمام تساؤلات حقيقيّة: ماذا يفعل من يشاهد المجزرة عبر التلفاز؟ ماذا يفعل من لو اختفى ضجيج العالم من حوله وأطرق السمع، لكان سمع صوت الإبادة واستغاثة الناس مباشرة عن بُعد كيلومترات؟ كيف نقرأ هذا الدم السائل من كلّ مكان فينا؟ من نحن بعد هذا الجرح الغائر؟ كيف تصبح المجزرة طعامنا وشرابنا وسُعالنا وفِراشنا دون أن نكون قادرين على لجمها وتكميمها؟ كيف دخلت في تكويننا حتّى صارت رؤانا وموضوعنا الأوحد؟ كم مرّة ستتكرّر عبر هذه الجغرافيا الضيّقة لتكون كافية؟ ومتى سنقول، شعبًا واحدًا، أنّها ستكون المجزرة الأخيرة؟
في معرض بثّ حيّ لا يجيب محمّد صالح خليل على هذه التساؤلات، ولا يقترب من الإجابة عليها، إنّما يختار اقتراحًا آخر: أن ينقل لنا الواقع كما هو، عاريًا من الإضافات، ومجرّدًا من الزينة، واقعًا واقعيًّا لا يجترح استعارات، ولا يلتفّ على الحقيقة بالمجاز، واقعًا يخرج من الشاشة إلى اللّوحة بمباشرة في بثّ حيّ، وصدق غير متكلّف، لأنّ الإبادة أكثر وضوحًا من أن تحتاج إلى استعارة، وهي أكبر من اللّغة وأبعد من الخيال.
يجسّد المعرض المجزرة المستمرّة في فلسطين منذ عقود، عبر لوحات يمكننا تذييلها بأيّ تاريخ نريده: قبل عشرة أعوام من الآن، قبل عشرين، خمسين، خمسة وسبعين، أو أيّ عنوان نختاره: الانتفاضة الأولى، الانتفاضة الثانية، الحرب على مخيّم جنين، إحدى الحروب على غزّة، أو حتّى حرب الإبادة الدائرة اليوم.
يتواصل الفنّان المُشاهد هنا مع الشاهد على الإبادة في غزّة، وينقل صوته وصورته إلى لوحات تكاد تخرج من إطارها، وتكاد تتجسّد لحمًا ودمًا. لا يساوي المعرض بين المشاهد عن بُعد للمجزرة، وبين من هم تحت نيرانها، لكنّه يترك لنا فسحة كي نرى ماضينا وحاضرنا فيها. كلّ منّا سيرى نفسه، أمّه، أباه، ابنه، ابنته، صديقه، جاره، في اللّوحة، والزمن فيها هو زمن الإبادة بلا ريب، إنّه الزمن الفلسطيني العالق في لحظة دائمة من القتل والتنكيل والعجز في أحد طرفيه، والواقف في لحظة دائمة من المقاومة والصمود والسموّ في الطرف الآخر. إنّه زمن العجز أمام آلة الموت، وزمن الإصرار على البقاء واجتراح أسباب جديدة للحياة.
عن الفنّان محمّد صالح خليل
ولد في الزرقاء في الأردنّ عام 1960، لأبوَين من قرية الولجة قرب مدينة بيت لحم. نشأ في دمشق، وحصل على درجة الماجستير في الفنون التشكيليّة من ألمانيا – دريسدن عام 1988، حيث تمرّس في تقنيّات فنّ الرسم اللّوني والحفر والطباعة.
عاد خليل إلى دمشق، وأقام معرضه الشخصي الأوّل، ثمّ انتقل إلى نيقوسيا في قبرص، وقضى فيها خمس سنوات، تمكّن خلالها من تطوير موهبته الفنيّة وعرض أعماله في معارض شخصيّة وجماعيّة. كان للعام 1996 تأثير كبير في حياته، إذ تمكّن من العودة إلى أرض الوطن للمرّة الأولى، واستقرّ في رام اللّه، فأسّس محترفه الخاصّ، وجمعيّة منتدى الفنّانين الصغار، حيث بدأ يعلّم الفنون للشبيبة، إضافة إلى إدراته قسم الفنون التشكيليّة في وزارة الثقافة.
لا يخلو أسلوب خليل الفنّي من تأثيرات الفنّ التعبيري الألماني، فهو يُعير اهتمامًا بالغًا للّون وتوزيعه في اللّوحة، مستخدمًا ضربات فرشاة عريضة يخطّها بجرأة على لوحاته كبيرة الحجم. أمّا مواضيع لوحاته، فيستعيرها من الأحداث اليوميّة التي تعصف بفلسطين والعالم.