"أمير غزّة الصغير" - معرض تنظّمه مؤسّسة رمزي وسائدة دلّول للفنون في بيروت، بالتعاون مع المتحف الفلسطيني في الضفّة الغربيّة، فلسطين، ويكرّسانه لأطفال غزّة الأبرياء الذين قضوا ضحيّة العدوان الإسرائيلي المستمرّ على القطاع.
ليس هذا المعرض عرضًا فنيًّا فحسب، إنّما هو تذكار، وسرد، وتحيّة إجلال لأكثر من 8.500 روح فتيّة بين عمر اليوم و18 عامًا، فقدناها، ولصمود ثقافة ما تزال قادرة على الأمل رغم كلّ الصعاب.
مستوحىً من تمثال البرونز للفنّان شوقي شوكيني، والذي حمل اسم "الأمير الصغير: طفل غزّة" (2010)، يضيء المعرض على القضيّة الفلسطينيّة بعمومها، وعلى الظروف التي يعيشها الأطفال الفلسطينيّون على وجه التحديد. وفي خضمّ العدوان الإسرائيلي المستمرّ خلال العام 2023 ضدّ المدنيّين الفلسطينيّين الأبرياء، يقدّم معرض "أمير غزّة الصغير" منصّة لتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيّين، والأصوات التي غالبًا ما لا تجد من يسمعها في ذروة الصراع – أصوات الأطفال.
في السابع من تشرين الأوّل 2023، نفّذت حركة المقاومة الإسلاميّة حماس، الحاكم الفعلي لقطاع غزّة، هجومًا مباغتًا على المستوطنات الواقعة في غلاف غزّة، لتدّعي إسرائيل أنّ هذا الهجوم أسفر عن قتل المئات من مواطنيها، واحتجاز العشرات كرهائن. وبدعوى الدفاع عن النفس، انتقم الجيش الإسرائيلي بتصعيد لا يتناسب مع حجم الهجوم على القطاع المحاصر.
وعلى الرغم من الدعوات المتتالية لوقف إطلاق النار ، تستمرّ إسرائيل وحلفاؤها في السماح بالإبادة الجماعيّة والتدمير غير المسبوق لمنازل الفلسطينيّين وأراضيهم، وتحطيم حياة صغارها بشكل مُفجع .
يمثّل تمثال "الأمير الصغير: طفل غزّة" قلب المعرض، وتمّ وضعه فوق منصّة في المركز، ليقدّم تمثيلًا ماديًّا ملموسًا لمن وما تدمّره الهجمات الحربيّة التي يتعرّض لها قطاع غزّة. التمثال المصنوع من البرونز، والذي يتجاوز طوله المتر بقليل، يحكي قصّة متداخلة ومتشابكة تعكس تقطُّع حياة أطفال غزّة وتفتُّتها، وتأثير تشظّيها فيهم.
يحمل الأسلوب التكعيبي للتمثال شيئًا من التناقض الذي يجسّده طفل عالق أبدًا في حالة من الصدمة، والتي تبدو جليّة على وجه التمثال، بعينيه الواسعتين وفمه الصغير، بينما يظهر الطفل/ التمثال وكأنّما يحدّق مذهولًا في الصور الوحشيّة للمذبحة القادمة من غزّة. وإذ كان المغزى من هذه الموادّ أن تعكس التداعي والتفكّك الذي يعيشه الأطفال تحت الاحتلال، فقد تجسّدت الآن كأطراف مبتورة، ودمار للبيوت الآمنة، ومزيد من التشريد للفلسطينيّين في أرضهم. ومع ذلك كلّه، وفي حين أنّ بعض أوجه هذا التمثال تمثّل الواقع التراجيدي، إلّا أنّ قلبه المنحوت يخبرنا بأنّ هناك ما هو أكثر من ذلك: بعينه المحفورة، ينظر الصغير باتّجاه المستقبل، بينما يصرّ قلبه - الحاضر أبدًا - على التشبّث بالحياة.
اختير عنوان المعرض "أمير غزّة الصغير" تكريمًا لرواية "الأمير الصغير" لمؤلّفها أنطوان دو سانت إكزوبيري، والتي أحبّها الناس في أصقاع الأرض. يتجلّى سحر الرواية في اقتران براءة الولد الصغير، الشخصيّة الرئيسيّة، وملاحظاته أثناء التفاعل مع عبثيّة البالغين الذي يلتقي بهم في مغامراته، ووحدتهم. غالبًا ما يشعر هذا الصغير بالإحباط من عدم قدرة البالغين على فهم ما هو مهمّ في هذا العالم دون تقديم تفسيرات عميقة. وفي حين أنّ المقصود من هذا التفاعل بين الجيلين إضفاء لمسة من الرومانسيّة على الحكمة الفطريّة التي يحملها الأطفال الذين يبصرون العالم عبر عدسة البراءة، فإنّ نموّ شخصيّة الولد الصغير تتحقّق من خلال فهمه للمسؤوليّة التي يدين بها لأولئك الذين يحبّهم: "أنت تصبح مسؤولًا للأبد عمّا تروّضه" . تؤطَّر هذه اللّحظة على أنّها لحظة نموّ حقيقي، حيث يدرك الولد الصغير ما هو مهمّ حقًّا في العالم. وبالمثل، يخبرنا التمثال أن لا بدّ أن تكون هناك فسحة للأخطاء والمغامرة في حياة أطفال غزّة، تسمح لهم بالنموّ الشخصي لتحقيق النضوج، ومع ذلك، فإنّ بناءه من البرونز الصلب بالأسلوب التكعيبي المفكّك يشير إلى حقيقة أكثر قسوة.
في أغلب الإعلام الغربي السائد يُنظر إلى الهجمة العسكريّة على قطاع غزّة من منظور الواقعيّة السياسيّة المحايدة والباردة. وفي هذا الإطار، فإنّ المصالح الذاتيّة، وبقاء دولة إسرائيل بحدّ ذاته، بما فيه ردّ فعلها العسكري اللّاحق، تنبع جميعها من المفهوم المشبوه أخلاقيًّا، والذي ينصّ على أنّ "الغاية تبرّر الوسيلة"، ويتمّ تبرير ذلك للمشاهدين عبر مفاهيم تشبه أنّ حياة الآلاف هي أضرار جانبيّة لا مفرّ منها، وأنّ الاستخدام المفرط للقوّة هو أمر لا بدّ منه، وأنّ تدمير منازل الناس وحياتهم هو ثمن منطقي. وخلال هذه العمليّة، تصبح الرسالة جليّة تمامًا: بعض الأرواح أكثر قيمة من غيرها.
في الواقع، هناك "أمير" آخر يمكن استحضاره إلى هذه الساحة بُغية الإضاءة على هذا الصراع الأخلاقي الجوهري: كتاب الأمير لمؤلّفه نيكولو ميكافيللي - وهو رسالة بحثيّة في الفقه السياسي، تهدف إلى تقديم المشورة لحكّام الدولة حول كيفيّة الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها بما يخدم مصلحة الدولة. في الكثير من الحالات التي أوردها ميكافيللي في كتابه، فإنّه غالبًا ما يُفهم منها أنّه يمكن للحاكم استخدام القوّة والتلاعب والمكر لتحقيق غاياته، ولكن غالبًا ما يتناسى الخطاب الشعبي المقولة الأساسيّة لهذا العمل، والتي تشدّد على أنّ السعي إلى السلطة لا بدّ وأن يكون في مصلحة الدولة، وليس من أجل مكاسب شخصيّة في الواقع، هناك "أمير" آخر يمكن استحضاره إلى هذه الساحة بُغية الإضاءة على هذا الصراع الأخلاقي الجوهري: كتاب الأمير لمؤلّفه نيكولو ميكافيللي - وهو رسالة بحثيّة في الفقه السياسي، تهدف إلى تقديم المشورة لحكّام الدولة حول كيفيّة الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها بما يخدم مصلحة الدولة. في الكثير من الحالات التي أوردها ميكافيللي في كتابه، فإنّه غالبًا ما يُفهم منها أنّه يمكن للحاكم استخدام القوّة والتلاعب والمكر لتحقيق غاياته، ولكن غالبًا ما يتناسى الخطاب الشعبي المقولة الأساسيّة لهذا العمل، والتي تشدّد على أنّ السعي إلى السلطة لا بدّ وأن يكون في مصلحة الدولة، وليس من أجل مكاسب شخصيّة ..
يقف "الأمير الصغير: طفل غزّة" في مواجهة هذه الروح الميكافيلليّة المشوّهة، ومبرّر الحكّام في تنحية الاعتبارات الأخلاقيّة خدمة لمصالحهم الشخصيّة بدلًا من مصلحة الدولة. يؤكّد التمثال بجرأة، من خلال شكله الصلب والمتين، على أنّ لتجاهل الاعتبارات الأخلاقيّة تبعات ملموسة وحيّة وغير مجرّدة يتردّد صداها من جيل إلى جيل. إنّه يشير بقوّة إلى أنّ "الأضرار الجانبيّة" إنّما هي أولئك الذين يُسحقون عمدًا، والذين يُنظر إليهم على أنّهم لا يستحقّون الكثير من الاهتمام. الرجولة المريضة التي غالبًا ما تُنسب إلى "أمير" ميكافيللي، لا بدّ أن تخضع للتدقيق والرفض على الدوام، خصوصًا عندما يتمّ تقديمها على أنّها "مجرّد حقيقة" لا بدّ من قبولها.
يقدّم معرض "أمير غزّة الصغير" لواقع مختلف، واقع دقيق يطابق تجربة المحرومين والمضطهدين الذين تمّ إسكاتهم. لا يقصد المعرض تجريد الحالة الفلسطينيّة، بل يهدف، بدلًا من ذلك، إلى وضع الشهود وجهًا لوجه أمام مشهد صعب، يحمل في الغالب الكثير من الألم والحزن والغضب، ولكنّه يُبقي على الأمل العنيد.
يخدم "أمير غزّة الصغير" كمجاورة نقيضة وصارخة للسياسة الواقعيّة الباردة لأمير ميكافيللي. إنّه يحطّم وهم الانفصال الذي يتطلّبه الإيمان بأنّ معاناة وحرمان أطفال وشباب غزّة المتواصلَين يمكن تبريرهما بطريقة ما. بوضع تجارب المضطهَدين بدلًا من المضطهِد في مركز الحدث، يضع المعرض الجمهور في مواجهة الحقائق القاسية التي يعايشها الفلسطينيّون في قطاع غزّة. إنّه يتحدّى المشاهد ليبصر ما وراء الخطاب البليد للواقعيّة السياسيّة، ويفحص وفرة التعبيرات المتعلّقة بفلسطين.
فكرة: وفاء الرُّز
نصّ: بُشرى بتلوني
تحرير: وفاء الرُّز وإلسي لبّان