افتتحت مكتبة بيت الحكمة في الشارقة معرض "لاعب النرد: محمود درويش"، بالشراكة مع المتحف الفلسطيني ومؤسّسة محمود درويش ومؤسّسة بارجيل للفنون ومركز خليل السكاكيني الثقافي، إلى جانب عدد من المؤسّسات الثقافيّة، مقدّمًا للزوّار رحلة بصريّة وسمعيّة تتتبّع مسيرة الشاعر الفلسطيني منذ بداياته الأولى، وصولًا إلى حضوره المتجدّد في الذاكرة العربيّة والعالميّة. ويستمرّ المعرض حتّى 13 آذار 2026.
شهد حفل الافتتاح حضورًا لعدد من الشخصيّات الثقافيّة والفنيّة والإعلاميّة، من بينها ممثّلون عن وزارة الثقافة والشباب، والقنصليّة الفلسطينيّة في دبي، وجهات رسميّة من إمارة الشارقة، إلى جانب شركاء ثقافيّين. وقدّم الفنّان والموسيقار مارسيل خليفة فقرة موسيقيّة استعاد فيها أبرز الأعمال التي جمعته بمحمود درويش، وتحدّث بإيجاز عن علاقته بالشاعر وعن تجربته في تلحين قصيدة "يطير الحمام" التي أكملها بعد رحيله، وأدّاها في مراسم التأبين.
تقوم رؤية المعرض على صورة النرد بوصفها استعارة لتعدّد وجوه محمود درويش، حيث يتقدّم الزائر عبر ستّة محاور مترابطة تكشف خيوط حياته وتحوّلاته الشعريّة والإنسانيّة. يبدأ المسار من جذوره الأولى في قرية البِروَة في قضاء عكّا، حيث تُعرض صور ووثائق ومخطوطات تُبرز طفولته وصلته المبكّرة بالمكان والعائلة، وكيف ظلّت القرية ركنًا ثابتًا في نصوصه ورمزًا للفقد والذاكرة.
وتتقدّم الرحلة إلى محطّة تشكّل الصوت الشعري التي ترصد سنوات دراسته في حيفا وبداياته الأدبيّة، من خلال نسخ نادرة من دواوينه الأولى وموادّ أرشيفيّة تُضيء على تطوّر لغته ومسارات قراءاته. أمّا المحطّة الثالثة فتتناول تجربة المنفى في محطّاتها المتعدّدة: من كونه "لاجئًا في وطنه" تحت المراقبة والاعتقال، إلى انتقالاته بين موسكو والقاهرة وبيروت وتونس وباريس، وصولًا إلى رام اللّه. وتكشف الوثائق والتحقيقات والرسائل وسجلّات السفر التحوّلات التي صاغت هويّته ورؤيته السياسيّة والشعريّة.
ويتوقّف المعرض عند حضور الحبّ في حياة درويش، من خلال وثائق وصور ومخطوطات تعكس أثر التجربة العاطفيّة في تشكيل نبرة نصّه وعمقها، إلى جانب أعمال فنيّة تستكشف بعده الإنساني. كما يبرز دوره بوصفه صوتًا للمقاومة الثقافيّة عبر وثائق محوريّة، مثل "بطاقة هويّة" ومشاهد من الفيلم الوثائقي "سجّل أنا عربي"، إضافة إلى موادّ تتعلّق بعلاقاته مع رموز الثقافة الفلسطينيّة، مثل إدوارد سعيد وناجي العلي. ويخصّص المعرض مساحة لأمسيته الشعريّة في مسرح الشارقة الثقافي عام 1996، ووثائق زياراته لدولة الإمارات.
ويبلغ المسار محطّته الأخيرة عند السنوات الأخيرة من حياة الشاعر، حيث تُعرض تسجيلات من قصيدة "جداريّة" وصور من جنازته عام 2008 في رام اللّه، إلى جانب نصّ نادر كتبه متخيّلًا جنازته. وتُختتم التجربة بأعمال فنيّة تستلهم حضوره وشعره، مؤكّدة بقاءه الفاعل في الوعي والذاكرة رغم الغياب.
من جهته، قال عامر الشوملي، مدير عامّ المتحف الفلسطيني: "في إحدى الأمسيات جلست على بُعد مترين فقط من الشاعر محمود درويش، وكانت تجربة استثنائيّة شعرت خلالها وكأنّني أراه وأسمعه للمرّة الأولى. واليوم، أعاد إليّ هذا المعرض الإحساس نفسه بأنّنا نقف على المسافة ذاتها من محمود درويش؛ مسافة تسمح بالاقتراب الحقيقي من إرثه الحيّ، ويعود الفضل في ذلك إلى الجهد الكبير الذي بذلته المؤسّسات المشاركة، وفي مقدّمتها مكتبة بيت الحكمة وسموّ الشيخة بدور القاسمي، التي منحت الجمهور العربي فرصة نادرة للولوج إلى عمق الكواليس، والاقتراب من تجربة الشاعر بشكل مباشر". وأضاف شوملي: "أرى أنّ الدور الأسمى للمؤسّسات الثقافيّة هو كشف الكواليس لجمهورها، وجعل الثقافة قريبة وواضحة للناس. وقد نجح هذا المعرض في تقديم شعر محمود درويش بطريقة مباشرة وواضحة، تسهم في تعزيز هذا القرب".
وتأتي مشاركة المتحف الفلسطيني في هذا المشروع ضمن جهوده الرامية إلى دعم المعارض والمبادرات التي تُعنى بتقديم الإرث الثقافي الفلسطيني، عبر مسارات بحثيّة وبصريّة تترافق مع موادّ أرشيفيّة أصيلة، مساهمًا في توفير وثائق وصور وأعمال فنيّة تسهم في بناء السرديّة الرئيسة للمعرض.
ويرافق المعرض في الشارقة برنامج ثقافي، يشمل جلسات حواريّة وقراءات شعريّة وعروضًا وثائقيّة، بمشاركة كتّاب ونقّاد وفنّانين عاصروا تجربة محمود درويش أو اشتغلوا على إرثه الأدبي، ويستمرّ البرنامج حتّى 13 آذار 2026 بالتزامن مع ذكرى ميلاد الشاعر.