النصّ الرئيسي:
- كيف تفقد أكثر من سبعة آلاف إنسان؟
- أُمطرهم بالغارات واحدةً تلو الأخرى، وأمنع انتشالهم من تحت الركام.
- كيف تفقد شعبًا كاملًا من مليونين ونصف المليون إنسان؟
- أقطع عنهم الاتّصالات، والكهرباء، والماء. الحياة.
في معرض "المفقودون" يخلق تيسير بركات عالمًا مبنيًّا على الفقدان بمفهومه الواسع: فقدان الحياة بألفتها المعهودة، وفقدان الإحساس بالزمن، وخسارة المكان، وقبل ذلك كلّه فقداننا لأنفسنا. تعيش شخوص لوحات بركات، التي تتوزّع في ثلاث مجموعات، هي: التّيه، وأطياف، وعالم قيد التكوين، في عالمٍ قوامه الخراب: شخوص هامشيّة تراقب من بعيدٍ أحيانًا، وهائمةٌ أحيانًا أخرى، وجوهها بلا ملامح، وعيونها لا ترى، وحركتها بلا وتيرةٍ واضحة.
ينفتح عالم بركات على التأويل، وعلى احتمالاتٍ عديدةٍ لعالمٍ لا نعرف على وجه التحديد إن كان عالم الفاقدين أم المفقودين، وربّما أنّهما سيّان، ففي زمن الإبادة كلُّنا مفقودون.
يبني بركات لحظةً متكرّرةً ولانهائيّةً من الضياع، تتوه فيها الحواس، وتضيق اللّغة، ويتحجّر فيها الإحساس بالزمان والمكان. إنّها لحظةٌ فاصلةٌ بين عالمَي الحياة والموت، وعالمَي النجاة والهلاك، أمّا الحدود بين العوالم فلا تُكاد تُرى، أو أنّها ليست هناك بالضرورة. هل بات الدمار عالمًا؟ هل هو عالمٌ موازٍ، أم أنّه واقعي؟ أم أنّ كلّ هذا مجرّد هذيان؟
سيرة:
أنا نحنُ، أنا شعبٌ لم يولد بعد. ربّما أكون من مواليد أيلول عام سبعين ومائةٍ وألفين. أنا حزينٌ ولا أرغب في أن أكون الآن، أرغب في أن أكون في الماضي أو في زمنٍ آخر. سأقيم العديد من المعارض الجماعيّة في كواكب عدّة، منها المشتري وزحل وعطارد، أفكّر في ثلاثة معارض شخصيّةٍ في المريخ وبلوتو وكوكب الأرض. لا اسم لي ولا شكل... لا قيمة لي في هذا الزمن، يمكن أن تجدوني ميّتًا في نفقٍ على الحدود المصريّة، أو متسوّلًا في أحد شوارع نواكشط، أو حاوية قمامةٍ في مخيّم جباليا، أو كيس إسمنتٍ في أبو ديس، أو برعم وردةٍ على شواطئ الهادي، أو غريقًا مختنقًا بالهجرة والملح على أوّل الدردنيل، أو طائرًا مبلّلًا بالبترول على شواطئ الخليج العربي. أنا أخوكم، أنا لا شيء، أنا صدفةٌ، أنا نفقٌ، أنا دبّابةٌ، أنا كيس طحينٍ، أنا بيتٌ مهدومٌ، أنا جرحٌ نازفٌ، أنا جرّة غازٍ، أنا ديكٌ أعرج، أنا سيّارة إسعافٍ، أنا جدارٌ ينتظر الهدم، أنا علبة صفيحٍ، أنا شجرةٌ يقطعون منّي كلّ يوم غصنًا ليطبخو طعام أطفالهم، أنا رصيفٌ مهشّمٌ في غزّة هاشم. ربّما أنا فاسدٌ، ربّما أنا شجاعٌ، ربّما طيّبٌ، ربّما غلبان! أنا تعبان.
تيسير بركات
(1) التّيه
أين أنا؟ من أنا؟
سوادُ هائمٌ.
تاهت خُضرة الأشياء. هل أنا رجلٌ أم امرأةٌ؟ هل أنا طفلٌ أم كهلٌ أم عجوزٌ؟ هل أنا عصفورٌ؟
ضاع توازن الأشياء.
كم الساعة الآن؟ من أيّ شهرٍ؟ من أيّ عامٍ؟
سوادٌ مُطبقٌ يعلوه ركامٌ.
هل أنا ميّتٌ؟ هل أنّا حيٌّ؟
أنا لا أريد أن أموت.
لم تكن ألواني كما ترونها، لم يكن شكلي كما أبدو،
أنا لا أعرفني الآن.
(2) أطياف
أحلّق فوق المدينة، تحلّق معي الجذور. أُبصر ولا أُبصر.
كلّما قلتُ أنا لا أريد الموت ارتفعتُ، وتعود ذاكرتي شيئًا فشيئًا: أتذكّر من أنا وأين أنا.
أصرخ: أنا لا أريد الموت. أهذي هي القيامة؟
أتذكّر رائحة خبز أمّي،
أنا تعبان،
أنادي: يا أحمد، يا أمّ علي، أين أنتم؟ لكنّ صوتي لا يخرج منّي.
أهذي هي القيامة؟ أنا لا أريد الموت.
أرى شبحًا، طيفًا، شاهدًا مثلي: أنا أعرفكَ، أنت من النازحين. كيف الصباح؟ كيف المساء؟ هل تبحث عن لقمة العيش؟
(3) عالم قيد التكوين
أين أنا؟ ما هذه العتمة؟ أنا لا أرى شيئًا.
أسمعُ صوت نباح الكلاب.
أنا أعرفكَ، أنت من النازحين، جئتَ من الشمال.
لماذا لا تتكلّم؟ هل أنت أخرس، أم أنّ الصدمة فعلت بك هذا؟
أهذا البياض على وجهكَ ملح البحر، أم أنّه غبار القصف؟
أنا لم تكن ألواني كما ترونها الآن، ولم يكن شكلي كما أبدو الآن. كنتُ كما كنتُ، حنطيًّا، وفي زمن الشقاء لوّنتني الشمس.
أنا لا أعرفني الآن.
في صبيحة التاسع عشر من كانون الأوّل، وفي بيتٍ ريفيٍّ على أطراف القرارة، استيقظتُ على هديرٍ قادمٍ من السماء، وفي مساء الثالث عشر من كانون الثاني رأيتُ ثوب أمّي بين الركام.
في اللّيل أبكي أمّي. أنا الناجي الوحيد. نجى من مات، ومات من نجى.
تذكّرتُ طحين الوكالة وحليب الوكالة. بكيتُ لبكاء طفلٍ صارت أخته أمّه، وصنعتْ له حليبًا ناشفًا من ركام البيوت.
رأيتُ بائع الخبر، وأستاذ الجغرافيا، والطبيب المناوب في المستشفى. رأيتُ الإسكافي، والبنّاء، والرسّام، والمحامي، والصيّاد.
رأيتُ البيوت، والمقاهي، والشوارع، والأشجار التي خطّت الرصيف.
سمعتُ أصوات بيوت العزاء، والأعراس، وحفلات التخرّج، وبكاء الأطفال في غرف الولادة.
رأيتُ المدينة كلّها هنا، في عالمٍ لا يزالُ قيد التكوين.
أنا وليد، سليم، هبة، أحمد، مريم، نداء، أشرف، محمّد، عبير...، من دير البلح، القرارة، خانيونس، رفح، الشاطئ، بيت لاهيا...