نظّم المتحف الفلسطيني مؤتمره السنوي الأوّل "المشاهد الطبيعية في فلسطين: آفاق جديدة منذ العام 1999"، على مدار يوم كامل، في قاعة معهد مواطن في جامعة بيرزيت، وذلك في ختام فعاليّات معرضه "اقتراب الآفاق: التحولات الفنّية للمشهد الطبيعي".
وجاء هذا المؤتمر بعد عشرين عامًا من مؤتمر كانت قد عقدته جامعة بيرزيت حول المشهد الطبيعي الفلسطيني، ونُشر في أعقابه كتاب حول المشهد الطبيعي الفلسطيني في العام 1999، وشاركت فيه نخبة من أهم الباحثين الفلسطينيين والدوليين، كان على رأسهم إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد، ليضيء المتحف من جديد، على تحوّلات المشهد الطبيعي بعد هذه السنوات، بما تحمله من متغيّرات سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية، وتعميق النقاش الدائر حول معرض "اقتراب الآفاق".
وركزت د. عادلة العايدي– هنية، في كلمتها الافتتاحية، على أهمية ضمن البرنامج البحثي والمعرفي الذي أطلقه المتحف الفلسطيني، الذي يُطوّر وينظّم سلسلة متنوّعة من الفعاليّات والأنشطة المُساهمة في عمليّة إنتاج المعرفة، ونشرها لفئات مختلفة ضمن المجتمع الفلسطيني. وتشمل هذه الفعاليّات مؤتمرات دولية وندوات، وورش عمل مُختلفة، ودعوات مفتوحة لتقديم أوراق بحثية مُتعلّقة بموضوعات الثقافة الفلسطينية المُعاصرة.
وكان المؤتمر قد بدأ بمداخلةٍ رئيسيةٍ قدّمها د. عمر تسدل، الأستاذ المساعد في دائرة الجغرافيا في جامعة بيرزيت، حول دراسات المشهد الطبيعي في فلسطين في العشرين عامًا الأخيرة، بعنوان "إعادة قراءة المشهد الطّبيعي في فلسطين من منظورٍ زراعي بيئي"، التي ركّزت على رصد التحوّلات البيئية الزراعية في فلسطين، وأثر الممارسات اليومية على المشهد الطبيعي.
وافتُتحت الجلسة الأولى بعنوان "الأرض والنّاس؛ المشهد الطّبيعي المادّي والفضاء الإنساني"، حيث قدمت د. هنيدة غانم، مدير عام مركز "مدار"، مداخلة بعنوان "جغرافيّات القوّة: الحدود وحواريّة القطع والوصل في فلسطين"، والتي ركزت فيها على تجربة شخصية لجدها فصل الاحتلال جزءًا من قريته في طولكرم، مستحضرة ذكرياتها عن علاقتها بالمكان والحدود التي أعيد ترسيمها قسرًا.
كما قدم د. غاري فيلدز، أستاذ الاتّصالات والدّراسات الحضريّة في جامعة كاليفورنيا، مداخلة بعنوان "ممنوع الدّخول! المشهد الطّبيعي الفلسطيني في إطار تاريخي"، حيت تركز حديثه على المشهد الفلسطيني كجزء من نمط استعماري متكرر في الاستيلاء على الأراضي، والذي تسيطر فيه الجماعات ذات الطموحات الاستعمارية الإقليمية على الأراضي التي يمتلكها الآخرون، وتبرير هذا من خلال الإشارة إليها على أنها فارغة، والقدرة المتفوقة على تحسينها. أما نسرين مزاوي، الكاتبة الفلسطينيّة وطالبة الدكتوراه في مجال علم الإنسان وعلم الاجتماع في جامعة حيفا، فتحدثت عن "تحوّلات في المشهد الحضريّ في البلدات الفلسطينيّة، الجليل والنّاصرة نموذجًا،" مركزة على واقع البلدات العربية الفلسطينية في الحيز، وممارسات الاحتلال من خلال آليات التخطيط وإقامة المجالس الإقليمية، للسيطرة على الحيز والحد من نفوذ البلدات العربية وصد التواصل الجغرافي بينها.
واستعرض مجد شهابي، المهندس الفلسطيني المقيم في سوريا، لتصميم الأنظمة، في مداخلته عبر الفيديو مشروع "خرائط فلسطين المفتوحة، واستخدام الأدوات الرّقميّة لإنهاء استعمار أرشيف فترة الانتداب"، وهو عبارة عن مجموعة خرائط أنتجتها عدة جهات وعلى رأسها البريطانيين خلال فترة الثلاثينيات والأربعينات، والتي تكمن أهميتها في كونها آخر سلسلة خرائط مفصلة تغطي فلسطين ما قبل النكبة والتقسيم، إضافة إلى كثافة التفاصيل الجغرافية، كما أنها تحتوي على الأسماء الأصلية بالعربية للمعالم وليس فقط البلديات والقرى، وهي بعكس الخرائط التي تغطي كل فلسطين، فهي تحتوي على تفاصيل حميمة على المستوى المحلي للبلد.
واختتم د. أحمد الأطرش، الأستاذ الزائر في قسم الدّراسات الحضريّة والممارسات المكانيّة في كليّة "بارْد" في جامعة القدس، الجلسة الأولى بمداخلة بعنوان "تسخير التحضر من أجل النمو في ضوء توافر الأراضي ومدى ملاءمتها في منطقة الضفة الغربية"، مستعرضًا واقع مناطق النمو الحضري في فلسطين، وآفاق التخطيط للمجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية، بناء على السياسة الحضرية الوطنية (NUP) وهي الخطة المكانية الوطنية لدولة فلسطين.
كما انطلقت الجلسة الثانية بعنوان "اقتراب الآفاق: المرئيّة والرّقميّة والماديّة؛ الفنّ وصلاحيّته الزّمنيّة"، حيث قدم د. إميل بدارين، زميل أبحاث ما بعد الدّكتوراه للكرسي الأوروبّي لسياسات الجوار في جامعة College of Europe، مداخلته حول "السّياسات الفلسطينيّة للمقاومة والمعارضة البصريّة والجماليّة"، حيث تمحور الحديث عن أن عقودًا من خطاب "السلام" وعملية الاستعمار الاستيطاني المستمرة لفلسطين، لم تعطل المشهد الطبيعي لفلسطين فقط، ولكنها أعادت أيضا رسم الخيال الذاتي الفلسطيني للمناظر الطبيعية الخاصة بهم. كما هيمن الواقع السياسي على تأطير تفكير الفلسطينيين للأرض والخيال السياسي.
أما الصحفي والكاتب الفلسطيني السوري، سليم البيك، فكانت مداخلته عبر الفيديو بعنوان "بناء المشهد الطّبيعي من الشّتات"، وتحدث فيها عن علاقته بالمكان كفلسطيني لاجئ، من منظور أدبي. كما جاءت مداخلة القيّمة د. يارا الشريف بعنوان "المشهد الطّبيعي للوقت والجمود"، والتي قدمت فيها قراءتها عن صورة المشهد الطبيعي الفلسطيني وسط كل ممارسات الاحتلال، وما آلت إليه هذه الممارسات من تقديم الفلسطينيين كجمهور سلبي، حيث تفسح إسرائيل المجال، وتتفاعل فلسطين مع ما يفرض، وأن الفلسطينيين الذين سكنوا الأرض وزرعوها بممارساتهم الثقافية اليومية وتقاليدهم في الزراعة، باعتبارها الشكل الرئيسي لكسب الرزق، قد تُركوا خارج المكان الرائع كما لو أنهم أزعجوا المشهد.
من جهتها ركزت د. هيلغا طويل- سوري، الأستاذة المشاركة في قسم دراسات الشّرق الأوسط والدراسات الإسلاميّة في جامعة نيويورك، في مداخلتها عبر الفيديو والتي جاءت بعنوان "أماكن مرئيّة: المشهد الطّبيعي الفلسطيني كنموذج وسيط"، على سؤال الأرض والمسافة، ومسؤولية وطريقة توثيق فلسطين من خلال تجربة معرض "اقتراب الآفاق"، والذي برأيها قد نجح في خلق مساحات للتخيل واستعادة الذكريات والتوضيح بطريقة فردية وجماعية ومتعددة الوجوه، ويعد واحدًا من أضخم الإنتاجات الثقافية البصرية في هذا السياق.
هذا وسينشر المتحف كتابًا سنويًا يتضمن الأوراق البحثية التي قُدمت في المؤتمر، إضافة إلى الأوراق البحثية التي قدمت ضمن الفعاليات الفكرية على مدار أشهر المعرض. كما تتوفر المداخلات كاملة على قناة المتحف الفلسطيني على يوتيوب.
يذكر أن المتحف يختتم معرض "اقتراب الآفاق" في 31 كانون الأول الجاري والذي يحاول استكشاف التحولات في المشهد الطبيعي لدى الفنانين الفلسطينيين، والعلاقة التي تربطنا بالمكان والموقع الجغرافي من خلال ثيمات المحو والتفتيت والمسافة والانتماء. ويضم مجموعة من الأعمال الفنية التي أنتجت منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.